عزوف الشباب عن الزواج.
إنّ ظاهرة تأخّر سِنّ الزواج لم تتواجد في أيام السلف وحتى عهد قريب بل كان الزواج المبكِّر سِمة منتشرة وعلامة ميّزت مجتمعاتنا الإسلامية.. إلاّ أن الكثير من العادات والتقاليد قد تغيَّرت عما كانت عليه هذه المجتمعات وللأسف لم تكن جميع التغيّرات إيجابية وذات نفع.. وإن كنت أرى أن بعض هذه التغيّرات متناسِبة مع تغيّرات العصر وكذا مع نمطيّة التفكير والسلوك بغض النظر عن قبولنا او رفضنا لها..
والإسلام لم يحدِّد سِنّا للزواج إلا أنه حثّ الشباب على الزواج المُبكر فقد قال الحبيب عليه الصلاة والسلام “يا معشر الشباب، مَن استطاع الباءة فليتزوج، فإنّه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومَن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء” (صحيح البخاري).
ففي العهود السابقة كان الزواج أمراً ميسّراً بدون تعقيدات زماننا ومطالبه التي تثقل كاهل الشباب فترهقه.. وكانت الفتاة ما إن تبلغ حتى يسارع الخطّاب إلى طلبها ويعتبرون هذا الأمر طبيعياً كما اعتادوه حفاظاً على الأخلاق ودرءا للمفاسد.. أما اليوم فقد اختلفت النظرة لقضية الزواج وبناء الأسرة نتيجة اختلاف المعايير والمفاهيم والنظرة للمؤسسة الزوجية واختلاف نمطية التفكير والقِيَم والعادات في مجتمعاتنا.. وما ذلك إلا بسبب ضعف الوازع الديني وقلة معرفتنا بشرعنا وكذلك بسبب الغزو الفكري والإعلامي والعولمي.. وقد بعُدنا عن تعاليم الإسلام التي تحفظ الأسرة والعقول والقلوب واندمجنا كلياً أو بشكل كبير في المجتمع الذي نعيش فيه دون العودة إلى الأصول ما أدّى إلى سهولة تقبّلنا للبضاعة المعروضة في المجتمع غافلين عن سرطانيات هذه البضاعة والتي تهدف أغلبها إلى إفساد المجتمع وكمثال على ذلك الحملات الموجّهة ضد الإسلام والأسرة المسلمة بشكل خاص ومن ضمنها اعتبار الأمم المتحدة للزواج المبكِّر عنفاً موجّهاً ضد المرأة (مؤتمر بكين 1995)..
بالإضافة إلى أن هناك تغييرات اقتصادية فقد أصبح تأمين السكن وتكاليف الزواج أمراً صعباً في ظل البطالة والفقر وندرة فرص العمل والأزمة الاقتصادية.. ولو صلُح أمر الشباب وتوكّلوا على الله حق الإتكال لأعانهم فقد قال جل وعلا: “وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ” (سورة النور- 32)
ومن ناحية أُخرى فقد تغيّرت أيضاً تربية الآباء والأمّهات للأولاد فترعرعوا وهم فاقدو القدرة على تحمل المسؤولية ونشأوا دون توعية مناسِبة وتفهُّم لمعاني الزواج وتحضيرهم منذ الصِغر للقيام بدورهم في المستقبل.. ناهيك عن فنون التباهي والتعلّق بالماديات فخرَّجوا أبناءا راغبين بالدنيا معرضين عن الدِّين متمسِّكين بالقشور والمظاهر..
وقد يقول قائل أن مجتمعنا قد تغيرت شئنا أم أبينا ولا نستطيع أن نعود لأيام السلف فقد اختلفت المعايير وكيفية الحياة وأقول نعم قد تغيّرت ولكن بأيدينا أن نرفض هذه المعايير الجديدة ولكن هل نجرؤ فعلياً على ذلك أم أنها تناسب أهواءنا وتعلّقنا بالدنيا وبالتفاخر أمام الأتراب؟ أليست في زماننا للأمور المادية والطبقية الأولوية في قبولنا للشاب؟ أو ربما للفتاة؟! هل وعينا خطورة تأخر الزواج على بناتنا وشبابنا وإمكانية وقوعهم في الفاحشة والمعاصي أو تعرّضهم لأمراضٍ نفسية؟
ما نحتاجه فعلياً هو إعادة صياغة لتفكيرنا ومبادئنا ونظرتنا للقضايا وتجريدها من مسحة الجاهلية فيها والتعرف على نظرة الشرع لاتّباعه..
أما عن الأسباب التي دفعت الكثير من الشباب إلى العزوف عن الزواج المبكر فحقيقة هناك العديد من الأسباب وهي متشابكة مترابطة وأساسها اقتصادي وتربوي واجتماعي وثقافي.. ومن أهمها:
- البطالة والفقر وانخفاض مستوى الدخل ما يجعل الشاب غير قادر على تحمل مسؤولية البيت مادياً
- الفساد الذي استشرى فأصبح في متناول الشاب إقامة علاقات محرَّمة دون اللجوء إلى قناة شرعية لتصريف طاقته الجنسية
- غلاء المهور وتكاليف الزواج وكثرة متطلبات أهل العروس
- الدراسة والرغبة في الحصول على أعلى درجات العلم واعتبار الزواج عائقاً أمام الطموحات والتطلّعات
- التفتيش عن شروط معينة ومواصفات عالية في شريك الحياة خاصة إن كان الشاب أو الفتاة يتمتّع بمميزات خاصة
- انشغال الشاب بأعباء أخرى وعدم استطاعته تحمل أعباء إضافية
- عدم الرغبة في تحمل المسؤولية أو تقييد الحرية الشخصية
- الخوف من الزواج بسبب الخلافات والطلاقات الكثيرة والعنف وغياب الاستقرار والمودة من البيوت
- الخشية من المستقبل في ظل الظروف القاسية المحيطة
- فَقْد المفاهيم الشرعية الصحيحة للزواج والسكن والمودة والبُعد عن الدين وقلة الإيمان بأن الرزق من عند الله تعالى
- هجرة الشباب بسبب الأوضاع الأمنية أو الاقتصادية وزواجهم من أجنبيات لسهولته في الخارج وتدني تكاليفه
- أزمة الثقة بين الشباب والشابات في زمن كثرت فيه الفتن وقلّ الحياء وقلّما يجد المرء شخصاً بدون علاقات سابقة
- الإعلام والعولمة وما من شأنه أن يغيِّر من مفاهيم وعادات ومعايير في المجتمع
- الإحباط وفقدان الأمل في المستقبل وسيطرة الخوف في عدم القدرة على تحمل المسؤولية
- رفض الفتيات السكن مع أهل الشاب ابتغاءا للاستقلالية وخوفاً من المشاكل في المستقبل
- المستوى التعليمي العالي للفتاة وطلبها لمَن يماثلها تعليمياً أو اجتماعياً في حين رغبة الشاب غالباً بالفتاة الأقل منه سِناً وعلماً
- تدخل الأهل وفرض آرائهم المغايرة لآراء أبنائهم ما يؤدي إلى تأخر الزواج حتى إيجاد حل يرضي الطرفين
- غياب دور المؤسسات الأهلية والرسمية في التوعية وإيجاد حلول مناسِبة لهذه الظاهرة
وفي المقابل نجد بعض الشباب الذين تيسّرت لهم سبل الزواج وتكاليفه ولكنهم يُعرِضون عنه ويمكن إيعاز ذلك إلى أسباب منها:
- عدم القدرة على الجماع أي المعاشرة الجنسية فحين يكون مدرِكاً انه مريض جسدياً فمن باب أولى أن لا يتزوج ويظلم زوجته وهو غير قادر على إعطائها حقوقها.
- عدم قدرته على التعرف على امرأة تتوافق معه فكرياً وتحقق له طموحاته وتطلّعاته.
- توغّله في متاهة العلاقات المحرّمة فلم يعد يجد حاجة في الزواج لأنه يحصل على ما يريد من لذّة في الحرام وبدون تحمل مسؤولية وتبعات العلاقة الشرعية.
- تعوّده على التعددية في العلاقة ورغبته في التجدد الدائم ما يجعله عازفاً عن الزواج ليستمتع بعلاقات متعددة والعياذ بالله جل وعلا.
- فقدان الثقة بالمرأة نتيجة تجربة أو سماع لتجارب الآخرين.
ومما لا شك فيه أن تأخّر سِن الزواج له انعكاسات وآثار سلبية كثيرة على المجتمع من جهة وعلى الشاب والفتاة من جهة أُخرى وذلك من النواحي النفسية والجسدية .. وتتمثَّل هذه المخاطر في النقاط الآتية على سبيل المثال لا الحصر..
- انتشار الرذيلة والفواحش والعلاقات المحرَّمة والانحرافات السلوكية والأخلاقية في المجتمع
- انتشار الاكتئاب والقلق بسبب عدم وجود السكن والشريك وبسبب ضغوطات المجتمع ما يؤدي إلى نشوء عقد نفسية
- انتشار ضعف الدم وفقدان الشهية والإدمان بنسبة كبيرة بين المتأخرين بالزواج
- السخط على المجتمع وسوء التكيّف الاجتماعي
- الميل للوحدة والانعزالية وتحميل الأهل أحياناً مسؤولية عدم الزواج ما قد يؤدي إلى العقوق
- قلة فرص الحمل لدى المرأة الكبيرة وزيادة نسبة الإجهاض وتشوّه الجنين وتعرض الحامل لارتفاع ضغط الدم وغيرها
- إمكانية تعرّض الطفل –من أم كبيرة- لإعاقة ذهنية أو جسدية
- الشعور الدائم بالحسرة في حال اللجوء إلى المحرّمات لتفريغ الطاقة الجنسية كالعادة السرية والمواقع الإباحية والقنوات الفضائية السيئة وغيرها
- شعور المرأة بالنقص وعدم رغبة الجنس الآخر بها ما يؤدي إلى فقد التقدير الذاتي والثقة لديها
- عدم استقرار المجتمع حين انتشار العنوسة وتعطيل القدرات لأبنائه في ظل الجوع للاستقرار النفسي والجسدي
- انتشار الأمراض الجنسية بسبب الشذوذ والزنا
- كثرة حالات الانتحار والجرائم والاغتصاب والخطف
- انتشار الطلاق الصامت أو الفِعلي نتيجة للزواج غير المتكافئ الذي ينساق إليه الشاب أو الفتاة حين يتأخر سِن الزواج
- انتشار أنواع لم نعهدها من الزواج كالمسيار والمسفار والفريند والتي لا تحقق السكن والمودة
- توسيع الهوّة بين الآباء والأبناء بسبب فارق السِن بينهم ما يؤدي إلى تفاوت ثقافي وفكري وعاطفي بينهم
والإعلام بوسائله كافّة هو الحربة الأصعب التي تعبث في عقول ومفاهيم أبناء الأمّة.. ويكمن خطره في قدرته على برمجة التفكير وتذويب المبادئ وتغيير الأخلاق وقولبة القِيَم وتشكيل الثقافة وتوجيه الإدراك كيفما يريد..
وكثير من وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة تساهم في نشر أفكار غريبة عن مجتمعاتنا الإسلامية والمستقاة في أكثر الأحيان من المجتمعات الغربية.. وهي تتبنّى إقامة علاقة حب قبل الخطوبة، وتأخير سن الزواج للشباب وللفتيات -بشكل أخَص- بدعوات مختلفة كضرورة التعلّم العالي وتأمين مورد مالي ووظيفة محترمة، وتحث على تقوية الشخصية والنضج والتساوي مع الرجل حتى لا “يسيطر” عليها فتصبح له تبعاً! وهي غالباً ما تُظهر للمرأة أنها حين تتزوج فستكون في موضع ضعف ومكسراً للعصا وعرضةً للعنف والاحتقار والخيانة والطلاق وكأنّ الحياة الزوجية عذاب وجحيم ما يجعلها تخشى الإقدام على الزواج.. في حين أن الشاب يتأثّر بالإعلام الذي يُظهِر المشاكل الأسرية بطريقة مشوّهة ومضخّمة فتنأى نفسه عن هذه المسؤولية المُكلِفة مادياً ومعنوياً!
وكذلك نرى الإعلام يشجّع على العلاقات المحرّمة وتصريف الشهوة في قنوات الرذيلة والفاحشة.. وهو يحارب فكرة تعدد الزوجات والفضيلة والحياء ويحرِّك مكامن الشهوة.. وفي دراسة على مئة فيلم تبيّن أن في 98% منها لقطات أو كلمات تثير الغريزة ما يدفع الشباب للعلاقات المحرّمة حتى إذا ما وجدوا فيها بغيتهم أعرضوا عن الزواج وتكاليفه!
وقد بات من المؤكّد اليوم أن أصابع الأعداء هي من تحرّك الإعلام عالمياً وقد أصبح إعلامنا العربي موجَّهاً ولا غاية بأغلبه سوى تضليل الشعوب وانحلال مفاصل الأخلاق عندها!
بالإضافة إلى دخول المرأة في الشبكة الرقمية وتعرّفها على أنماط من المجتمعات كثيرة وتفجير طاقاتها بين طيات صفحاتها ما ألهب رغبتها لإثبات نفسها أكثر وعدم الانطواء تحت مظلة الرجل..
وبفضل الله جل وعلا فإنّ هناك العديد من الجمعيات التي تُعنى بتزويج الشباب وتسهيل التكاليف عليهم حتى أنها تقيم الأعراس الجماعية لتخفف الأعباء عنهم.. وهي خطوة طيبة يؤجرون عليها ولها صدى رائع حيث يشعر المرء بقيمة التكافل الاجتماعي والتعاضد والأخوّة.. ولكني أؤمن أن الجهود لا بد أن تتكاتف بين العديد من الجهات لمساعدة هؤلاء الشباب وحثّهم على الزواج المبكر..
ومن ضمن هذه الجهات:
- الأسرة ومهمتها في الأساس تيسسير الزواج لأبنائها وعدم المغالاة في المهور والتقليل من الطلبات الملقات على عاتق الشاب.
- وزارة العمل ومسؤوليتها تأمين فرص عمل وزيادة الدخل
- الدعاة وخطباء المساجد والجمعيات الإسلامية ومهمتها بث الوازع الديني ونشر تعاليم الشرع حول تسهيل الزواج وتخفيف المهور وتبيان الآثار السلبية لتأخير الزواج والتحذير من الفواحش… وكذلك التوجيه والإرشاد حول قدسية الزواج والعلاقة بين النساء والرجال.
- وزارة الإعلام ومسؤوليتها الرقابة على القنوات التلفزيونية والفضائيات وفلترة الانترنت من المواقع الإباحية.. وفي بعض الدول العربية مُنِع تركيب الدِش لما له من تأثير سلبي على الأخلاق والقِيَم.
- وزارة الإسكان ومهمتها بناء مجمّعات سكنية بمعايير مقبولة للشباب المقبل على الزواج وعرضها للشراء بدفعات ميسّرة.
- المحسنين ومهمتهم تأسيس جمعيات للقروض الحسنة.
- جمعيات الإرشاد الأُسري ومهمتها إقامة دورات للمقبلين على الزواج للمساعدة على بث مقوّمات الزواج الناجح وطرق التعامل بين الزوجين.
- رجال الأعمال والرأسماليون ومهمتهم تأسيس مصانع ومشاريع استثمارية وتنموية لمحاولة القضاء على البطالة.
- المدرسة والجامعات ومهمتهم تربية النشء على تحمل المسؤولية ونشر ثقافة الزواج المبكر وإحياء الأخلاق والقِيَم الإسلامية والشرقية في المجتمع.
- الهيئات الاجتماعية والمهتمين بالشباب عليهم محاولة إيجاد البديل عن القنوات المثيرة والمواقع الاباحية وإشغال الشباب بالمفيد والرياضة والعمل التطوعي وكذلك تحويل نظرتهم السلبية للحياة الزوجية والاجتماعية إلى نظرة ايجابية…
في الحقيقة إن مشكلة تأخر الزواج مشكلة كبيرة وهي نتاج طبيعي لمشاكل اجتماعية وتربوية وثقافية ولحل هذه المشكلة لا بد من أن يهب جميع المعنيين للالتفاف عليها والقضاء على هذه الظاهرة وآثارها السلبية على الفرد والأسرة والمجتمع ككل.
إنّ ظاهرة تأخّر سِنّ الزواج لم تتواجد في أيام السلف وحتى عهد قريب بل كان الزواج المبكِّر سِمة منتشرة وعلامة ميّزت مجتمعاتنا الإسلامية.. إلاّ أن الكثير من العادات والتقاليد قد تغيَّرت عما كانت عليه هذه المجتمعات وللأسف لم تكن جميع التغيّرات إيجابية وذات نفع.. وإن كنت أرى أن بعض هذه التغيّرات متناسِبة مع تغيّرات العصر وكذا مع نمطيّة التفكير والسلوك بغض النظر عن قبولنا او رفضنا لها..
والإسلام لم يحدِّد سِنّا للزواج إلا أنه حثّ الشباب على الزواج المُبكر فقد قال الحبيب عليه الصلاة والسلام “يا معشر الشباب، مَن استطاع الباءة فليتزوج، فإنّه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومَن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء” (صحيح البخاري).
ففي العهود السابقة كان الزواج أمراً ميسّراً بدون تعقيدات زماننا ومطالبه التي تثقل كاهل الشباب فترهقه.. وكانت الفتاة ما إن تبلغ حتى يسارع الخطّاب إلى طلبها ويعتبرون هذا الأمر طبيعياً كما اعتادوه حفاظاً على الأخلاق ودرءا للمفاسد.. أما اليوم فقد اختلفت النظرة لقضية الزواج وبناء الأسرة نتيجة اختلاف المعايير والمفاهيم والنظرة للمؤسسة الزوجية واختلاف نمطية التفكير والقِيَم والعادات في مجتمعاتنا.. وما ذلك إلا بسبب ضعف الوازع الديني وقلة معرفتنا بشرعنا وكذلك بسبب الغزو الفكري والإعلامي والعولمي.. وقد بعُدنا عن تعاليم الإسلام التي تحفظ الأسرة والعقول والقلوب واندمجنا كلياً أو بشكل كبير في المجتمع الذي نعيش فيه دون العودة إلى الأصول ما أدّى إلى سهولة تقبّلنا للبضاعة المعروضة في المجتمع غافلين عن سرطانيات هذه البضاعة والتي تهدف أغلبها إلى إفساد المجتمع وكمثال على ذلك الحملات الموجّهة ضد الإسلام والأسرة المسلمة بشكل خاص ومن ضمنها اعتبار الأمم المتحدة للزواج المبكِّر عنفاً موجّهاً ضد المرأة (مؤتمر بكين 1995)..
بالإضافة إلى أن هناك تغييرات اقتصادية فقد أصبح تأمين السكن وتكاليف الزواج أمراً صعباً في ظل البطالة والفقر وندرة فرص العمل والأزمة الاقتصادية.. ولو صلُح أمر الشباب وتوكّلوا على الله حق الإتكال لأعانهم فقد قال جل وعلا: “وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ” (سورة النور- 32)
ومن ناحية أُخرى فقد تغيّرت أيضاً تربية الآباء والأمّهات للأولاد فترعرعوا وهم فاقدو القدرة على تحمل المسؤولية ونشأوا دون توعية مناسِبة وتفهُّم لمعاني الزواج وتحضيرهم منذ الصِغر للقيام بدورهم في المستقبل.. ناهيك عن فنون التباهي والتعلّق بالماديات فخرَّجوا أبناءا راغبين بالدنيا معرضين عن الدِّين متمسِّكين بالقشور والمظاهر..
وقد يقول قائل أن مجتمعنا قد تغيرت شئنا أم أبينا ولا نستطيع أن نعود لأيام السلف فقد اختلفت المعايير وكيفية الحياة وأقول نعم قد تغيّرت ولكن بأيدينا أن نرفض هذه المعايير الجديدة ولكن هل نجرؤ فعلياً على ذلك أم أنها تناسب أهواءنا وتعلّقنا بالدنيا وبالتفاخر أمام الأتراب؟ أليست في زماننا للأمور المادية والطبقية الأولوية في قبولنا للشاب؟ أو ربما للفتاة؟! هل وعينا خطورة تأخر الزواج على بناتنا وشبابنا وإمكانية وقوعهم في الفاحشة والمعاصي أو تعرّضهم لأمراضٍ نفسية؟
ما نحتاجه فعلياً هو إعادة صياغة لتفكيرنا ومبادئنا ونظرتنا للقضايا وتجريدها من مسحة الجاهلية فيها والتعرف على نظرة الشرع لاتّباعه..
أما عن الأسباب التي دفعت الكثير من الشباب إلى العزوف عن الزواج المبكر فحقيقة هناك العديد من الأسباب وهي متشابكة مترابطة وأساسها اقتصادي وتربوي واجتماعي وثقافي.. ومن أهمها:
- البطالة والفقر وانخفاض مستوى الدخل ما يجعل الشاب غير قادر على تحمل مسؤولية البيت مادياً
- الفساد الذي استشرى فأصبح في متناول الشاب إقامة علاقات محرَّمة دون اللجوء إلى قناة شرعية لتصريف طاقته الجنسية
- غلاء المهور وتكاليف الزواج وكثرة متطلبات أهل العروس
- الدراسة والرغبة في الحصول على أعلى درجات العلم واعتبار الزواج عائقاً أمام الطموحات والتطلّعات
- التفتيش عن شروط معينة ومواصفات عالية في شريك الحياة خاصة إن كان الشاب أو الفتاة يتمتّع بمميزات خاصة
- انشغال الشاب بأعباء أخرى وعدم استطاعته تحمل أعباء إضافية
- عدم الرغبة في تحمل المسؤولية أو تقييد الحرية الشخصية
- الخوف من الزواج بسبب الخلافات والطلاقات الكثيرة والعنف وغياب الاستقرار والمودة من البيوت
- الخشية من المستقبل في ظل الظروف القاسية المحيطة
- فَقْد المفاهيم الشرعية الصحيحة للزواج والسكن والمودة والبُعد عن الدين وقلة الإيمان بأن الرزق من عند الله تعالى
- هجرة الشباب بسبب الأوضاع الأمنية أو الاقتصادية وزواجهم من أجنبيات لسهولته في الخارج وتدني تكاليفه
- أزمة الثقة بين الشباب والشابات في زمن كثرت فيه الفتن وقلّ الحياء وقلّما يجد المرء شخصاً بدون علاقات سابقة
- الإعلام والعولمة وما من شأنه أن يغيِّر من مفاهيم وعادات ومعايير في المجتمع
- الإحباط وفقدان الأمل في المستقبل وسيطرة الخوف في عدم القدرة على تحمل المسؤولية
- رفض الفتيات السكن مع أهل الشاب ابتغاءا للاستقلالية وخوفاً من المشاكل في المستقبل
- المستوى التعليمي العالي للفتاة وطلبها لمَن يماثلها تعليمياً أو اجتماعياً في حين رغبة الشاب غالباً بالفتاة الأقل منه سِناً وعلماً
- تدخل الأهل وفرض آرائهم المغايرة لآراء أبنائهم ما يؤدي إلى تأخر الزواج حتى إيجاد حل يرضي الطرفين
- غياب دور المؤسسات الأهلية والرسمية في التوعية وإيجاد حلول مناسِبة لهذه الظاهرة
وفي المقابل نجد بعض الشباب الذين تيسّرت لهم سبل الزواج وتكاليفه ولكنهم يُعرِضون عنه ويمكن إيعاز ذلك إلى أسباب منها:
- عدم القدرة على الجماع أي المعاشرة الجنسية فحين يكون مدرِكاً انه مريض جسدياً فمن باب أولى أن لا يتزوج ويظلم زوجته وهو غير قادر على إعطائها حقوقها.
- عدم قدرته على التعرف على امرأة تتوافق معه فكرياً وتحقق له طموحاته وتطلّعاته.
- توغّله في متاهة العلاقات المحرّمة فلم يعد يجد حاجة في الزواج لأنه يحصل على ما يريد من لذّة في الحرام وبدون تحمل مسؤولية وتبعات العلاقة الشرعية.
- تعوّده على التعددية في العلاقة ورغبته في التجدد الدائم ما يجعله عازفاً عن الزواج ليستمتع بعلاقات متعددة والعياذ بالله جل وعلا.
- فقدان الثقة بالمرأة نتيجة تجربة أو سماع لتجارب الآخرين.
ومما لا شك فيه أن تأخّر سِن الزواج له انعكاسات وآثار سلبية كثيرة على المجتمع من جهة وعلى الشاب والفتاة من جهة أُخرى وذلك من النواحي النفسية والجسدية .. وتتمثَّل هذه المخاطر في النقاط الآتية على سبيل المثال لا الحصر..
- انتشار الرذيلة والفواحش والعلاقات المحرَّمة والانحرافات السلوكية والأخلاقية في المجتمع
- انتشار الاكتئاب والقلق بسبب عدم وجود السكن والشريك وبسبب ضغوطات المجتمع ما يؤدي إلى نشوء عقد نفسية
- انتشار ضعف الدم وفقدان الشهية والإدمان بنسبة كبيرة بين المتأخرين بالزواج
- السخط على المجتمع وسوء التكيّف الاجتماعي
- الميل للوحدة والانعزالية وتحميل الأهل أحياناً مسؤولية عدم الزواج ما قد يؤدي إلى العقوق
- قلة فرص الحمل لدى المرأة الكبيرة وزيادة نسبة الإجهاض وتشوّه الجنين وتعرض الحامل لارتفاع ضغط الدم وغيرها
- إمكانية تعرّض الطفل –من أم كبيرة- لإعاقة ذهنية أو جسدية
- الشعور الدائم بالحسرة في حال اللجوء إلى المحرّمات لتفريغ الطاقة الجنسية كالعادة السرية والمواقع الإباحية والقنوات الفضائية السيئة وغيرها
- شعور المرأة بالنقص وعدم رغبة الجنس الآخر بها ما يؤدي إلى فقد التقدير الذاتي والثقة لديها
- عدم استقرار المجتمع حين انتشار العنوسة وتعطيل القدرات لأبنائه في ظل الجوع للاستقرار النفسي والجسدي
- انتشار الأمراض الجنسية بسبب الشذوذ والزنا
- كثرة حالات الانتحار والجرائم والاغتصاب والخطف
- انتشار الطلاق الصامت أو الفِعلي نتيجة للزواج غير المتكافئ الذي ينساق إليه الشاب أو الفتاة حين يتأخر سِن الزواج
- انتشار أنواع لم نعهدها من الزواج كالمسيار والمسفار والفريند والتي لا تحقق السكن والمودة
- توسيع الهوّة بين الآباء والأبناء بسبب فارق السِن بينهم ما يؤدي إلى تفاوت ثقافي وفكري وعاطفي بينهم
والإعلام بوسائله كافّة هو الحربة الأصعب التي تعبث في عقول ومفاهيم أبناء الأمّة.. ويكمن خطره في قدرته على برمجة التفكير وتذويب المبادئ وتغيير الأخلاق وقولبة القِيَم وتشكيل الثقافة وتوجيه الإدراك كيفما يريد..
وكثير من وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة تساهم في نشر أفكار غريبة عن مجتمعاتنا الإسلامية والمستقاة في أكثر الأحيان من المجتمعات الغربية.. وهي تتبنّى إقامة علاقة حب قبل الخطوبة، وتأخير سن الزواج للشباب وللفتيات -بشكل أخَص- بدعوات مختلفة كضرورة التعلّم العالي وتأمين مورد مالي ووظيفة محترمة، وتحث على تقوية الشخصية والنضج والتساوي مع الرجل حتى لا “يسيطر” عليها فتصبح له تبعاً! وهي غالباً ما تُظهر للمرأة أنها حين تتزوج فستكون في موضع ضعف ومكسراً للعصا وعرضةً للعنف والاحتقار والخيانة والطلاق وكأنّ الحياة الزوجية عذاب وجحيم ما يجعلها تخشى الإقدام على الزواج.. في حين أن الشاب يتأثّر بالإعلام الذي يُظهِر المشاكل الأسرية بطريقة مشوّهة ومضخّمة فتنأى نفسه عن هذه المسؤولية المُكلِفة مادياً ومعنوياً!
وكذلك نرى الإعلام يشجّع على العلاقات المحرّمة وتصريف الشهوة في قنوات الرذيلة والفاحشة.. وهو يحارب فكرة تعدد الزوجات والفضيلة والحياء ويحرِّك مكامن الشهوة.. وفي دراسة على مئة فيلم تبيّن أن في 98% منها لقطات أو كلمات تثير الغريزة ما يدفع الشباب للعلاقات المحرّمة حتى إذا ما وجدوا فيها بغيتهم أعرضوا عن الزواج وتكاليفه!
وقد بات من المؤكّد اليوم أن أصابع الأعداء هي من تحرّك الإعلام عالمياً وقد أصبح إعلامنا العربي موجَّهاً ولا غاية بأغلبه سوى تضليل الشعوب وانحلال مفاصل الأخلاق عندها!
بالإضافة إلى دخول المرأة في الشبكة الرقمية وتعرّفها على أنماط من المجتمعات كثيرة وتفجير طاقاتها بين طيات صفحاتها ما ألهب رغبتها لإثبات نفسها أكثر وعدم الانطواء تحت مظلة الرجل..
وبفضل الله جل وعلا فإنّ هناك العديد من الجمعيات التي تُعنى بتزويج الشباب وتسهيل التكاليف عليهم حتى أنها تقيم الأعراس الجماعية لتخفف الأعباء عنهم.. وهي خطوة طيبة يؤجرون عليها ولها صدى رائع حيث يشعر المرء بقيمة التكافل الاجتماعي والتعاضد والأخوّة.. ولكني أؤمن أن الجهود لا بد أن تتكاتف بين العديد من الجهات لمساعدة هؤلاء الشباب وحثّهم على الزواج المبكر..
ومن ضمن هذه الجهات:
- الأسرة ومهمتها في الأساس تيسسير الزواج لأبنائها وعدم المغالاة في المهور والتقليل من الطلبات الملقات على عاتق الشاب.
- وزارة العمل ومسؤوليتها تأمين فرص عمل وزيادة الدخل
- الدعاة وخطباء المساجد والجمعيات الإسلامية ومهمتها بث الوازع الديني ونشر تعاليم الشرع حول تسهيل الزواج وتخفيف المهور وتبيان الآثار السلبية لتأخير الزواج والتحذير من الفواحش… وكذلك التوجيه والإرشاد حول قدسية الزواج والعلاقة بين النساء والرجال.
- وزارة الإعلام ومسؤوليتها الرقابة على القنوات التلفزيونية والفضائيات وفلترة الانترنت من المواقع الإباحية.. وفي بعض الدول العربية مُنِع تركيب الدِش لما له من تأثير سلبي على الأخلاق والقِيَم.
- وزارة الإسكان ومهمتها بناء مجمّعات سكنية بمعايير مقبولة للشباب المقبل على الزواج وعرضها للشراء بدفعات ميسّرة.
- المحسنين ومهمتهم تأسيس جمعيات للقروض الحسنة.
- جمعيات الإرشاد الأُسري ومهمتها إقامة دورات للمقبلين على الزواج للمساعدة على بث مقوّمات الزواج الناجح وطرق التعامل بين الزوجين.
- رجال الأعمال والرأسماليون ومهمتهم تأسيس مصانع ومشاريع استثمارية وتنموية لمحاولة القضاء على البطالة.
- المدرسة والجامعات ومهمتهم تربية النشء على تحمل المسؤولية ونشر ثقافة الزواج المبكر وإحياء الأخلاق والقِيَم الإسلامية والشرقية في المجتمع.
- الهيئات الاجتماعية والمهتمين بالشباب عليهم محاولة إيجاد البديل عن القنوات المثيرة والمواقع الاباحية وإشغال الشباب بالمفيد والرياضة والعمل التطوعي وكذلك تحويل نظرتهم السلبية للحياة الزوجية والاجتماعية إلى نظرة ايجابية…
في الحقيقة إن مشكلة تأخر الزواج مشكلة كبيرة وهي نتاج طبيعي لمشاكل اجتماعية وتربوية وثقافية ولحل هذه المشكلة لا بد من أن يهب جميع المعنيين للالتفاف عليها والقضاء على هذه الظاهرة وآثارها السلبية على الفرد والأسرة والمجتمع ككل.